المحور الثاني :العقلانية العلمية
الإطار الاشكالي
هل منبع النظرية هو التجربة ام العقل ؟وما هو بالتالي وضع العقل بالنسبه لبناء النظرية في العلوم التجريبية ؟ما هو الدور الذي يلعبه العقل الرياضي في بناء النظرية الفيزيائية مثلا؟ وما هي خصائص العقلانية العلمية وحدودها ؟وبماذا تتميز العقلانية العلمية المعاصرة عن النزعتين العقلانية والتجريبية الكلاسيكيتين؟
تحليل تصورات الفلاسفة
ان التطورات العلميه ابتداء من القرن 19 قد دفعت العلماء الى المراجعة النقدية لمبادئ العلم الكلاسيكي والتوجه نحو بناء عقلانيه علميه جديده حاول ابراز معالمها في الدراسات البيستمولوجيه المعاصره الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار، لكن قبل التعرف على صوره هذه العقلانيه العلميه الجديده في الابستيمولوجيا البلاشلاريه سنحاول الوقوف عند نزعتين متعارضتين: النزعه الوضعيه التجريبيه عند هانز رايشنباخ الذي لا يخفي معاداته لكل نزعه عقلانيه في العلوم التجريبيه، فضلا عن النزعه العقلانيه الرياضيه عند البير اينشتاين باعتباره احد رواد الثوره العلميه المعاصره.
اولا: تحليل تصور هانز ريشنباخ
تعطي النزعه الوضعيه التجريبيه عند هانز ريشنباخ الاولويه للتجربه كمنبع للنظريه ،وتجعل من مبدا التحقق التجريبي معيارا اساسيا لصلاحيه النظريه ولا تعترف بالدور الفعال للعقل الرياضي في بناء النظريه الفيزيائيه مثلا ،وفي هذا السياق لا يخفي هانز رايشنباخ معاداته لكل نزعه عقلانيه في العلم متعاليه على التجربه ،ويؤكد ان الانساق العقلانيه الرياضيه بتعاليها على التجربه تكون واقرب إلى الميتافيزيقا او التصوف الفكري منه الى العلم التجريبي.
ثانيا : تحليل تصور البير اينشتاين
في مقابل النزعة الوضعية التجريبية التي لا تقر بالدور الفعال الذي يلعبه العقل الرياضي في العلوم التجريبيه، يذهب البير اينشتاين الى القول ان المبدأ الخلاق للنظرية الفيزيائية لا يوجد في التجربة بل يوجد في العقل الرياضي وابداعاته التي تستمد منها النظريه الفيزيائية مبادئها وفرضياتها وقواعد بناءها الاكسيومي ،اما دور التجربة فياتي بعد ذلك للتأكد من صحه نتائج النظريه ،وبهذا المعنى يكون اينشتاين قد حدد دور كل من العقل والتجربه في بناء النظريه الفيزيائيه وعبر بذلك عن عقلانية علمية مبدعه ومتجددة وواقعية لا تجهل قيمه التجربة ولكنها في نفس الوقت تراهن اكثر على فعاليه العقل الرياضي وابداعاته يقول في ذلك اينشتاين " ان المبدا الخلاق في العلم لا يوجد في التجربه بل في العقل الرياضي"
ثالثا:تحليل تصور جاستون بشلار
ينتقد باشلار كل نزعه اختبارية او وضعية تجريبية تعتبر التجربة هي المنطلق والمرجع الاساسي لبناء النظريه ولا تعترف بالدور الفعال للعقد الرياضي في بناء النظريه الفيزيائيه مثلا .كما ينتقد النزعه الدغمائية في العقلانيهةالكلاسيكية التي اعطت الاولوية للعقل كما لو كان منبعا مطلقا للمعرفة مكتفيا بذاته في بناء النظرية العلمية، وعلى خلاف ذلك يؤكد غاستون على ان العقلانية العلمية المعاصرة هي عقلانية مطبقة ومفتوحة لا تتعالى على التجربة ،بل تقيم حوارا وتكاملا بين العقل والتجربة. والتجريبية العلمية المعاصرة هي تجريبية معقلنة لا تستغني عن خدمات العقل الرياضي وابداعاته. وهكذا كما بين غاستون فإن النزعتين المتعارضتين من قبل العقلانية والتجريبية سيحصل بينهما التقاء وتكامل في الفكر العلمي المعاصر الذي يتكامل فيه عمل العالم الرياضي العقلاني مع عمل العالم الفيزيائي التجريبي .في هذا المعنى يقول بشلار لا يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون الدخول في حوار فلسفي بين العالم العقلاني والعالم التجريبي، وبعبارة اخرى يحتاج عالم الفيزياء المعاصر ليقين مزدوج اولا :يقين بوجود واقع في قبضة ما هو عقلي فيكون بذلك مستحق الاسم الواقع العلمي وثانيا :يقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات هذه التجربة، وباختصار لا توجد عقلانية فارغة كما لا توجد اختبارية عمياء ،وهذا يفترض النظر الى الواقع العلمي او الموضوع الذي تبحث فيه النظرية العلمية على انه مبني ومشروط بالعقل العلمي الذي يبنيه وايضا النظر من جهه اخرى الى العقل العلمي على انه عقل اجرائي ومشروط بموضوع معرفته وحقل تجاربه وليس عقلا منغلقا او ثابتا.
خلاصة تركيبية
حاصل القول ان العقلانيه العلميه هي عقلانيه الفلسفيه مفتوحه تقوم على يقين مزدوج يوجه النشاط العلمي التجريبي كما تعتبر النظريه العلميه نظريه صحيحه عندما تعبر عن قوانين التجريبيه من جهه وعن مفاهيم العقل الرياضي الذي يبدع ويتخيل من جهه اخرى ان النموذج الرياضي هو نموذج فردي يبني التجربه التي لم تعد مرتبطه ارتباطا مباشرا بالواقع ويساهم الحوار بين النظريه والتجربه في اعاده صياغه مفاهيم فلسفيه وعلميه اساسيه فلا وجود للنظريه علميه خالصه كما لا توجد التجربه علميه مستقله عن العقل.